تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

مقحمة واللام متعلقا بما قبله واحتمال أن تكون عاطفة على (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أو على محذوف أي لتستبشروا وليبلى (حَسَناً) ط (عَلِيمٌ) ط (الْكافِرِينَ) ه (الْفَتْحُ) ج للفصل بين الجملتين المتضادتين مع العطف (خَيْرٌ لَكُمْ) ج لذلك (نَعُدْ) ج (كَثُرَتْ) ط لمن قرأ «وإن» بالكسر (الْمُؤْمِنِينَ) ه.

التفسير : قال في الكشاف (إِذْ يُغَشِّيكُمُ) «إذ» بدل ثان من (إِذْ يَعِدُكُمُ) أو منصوب بالنصر أو بما في عند الله من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكروا و (أَمَنَةً) مفعول لأجله و (مِنْهُ) صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من عند الله. ولما كان غشيان النعاس وكذا إغشاؤه وتغشيته متضمنا لمعنى تنعسون كان فاعل الفعل المعلل والعلة واحدا كما هو شريطة انتصاب المفعول له. والمعنى إذ تنعسون لأمنتكم أو يغشاكم النعاس فتنعسون أمنا. وجوّز على قراءة الإغشاء والتغشية أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان أي ينعسكم إيمانا منه. وجوّز أن ينتصب الأمنة على أنها للنعاس الذي هو فاعل (يُغَشِّيكُمُ) أي يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة ، أو على أن المراد أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة له من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل ، وقد مر فوائد هذا النعاس في سورة آل عمران. ومن نعم الله تعالى عليهم في تلك الواقعة إنزال المطر عليهم وكان فيه فوائد : إحداها : تحصيل الطهارة ، والثانية : إذهاب رجز الشيطان. وقيل : هو الجنابة التي أصابتهم لأنها من تخييل الشيطان ولا تكرار لأن الأولى عام وهذه خاص. وقيل : المراد المني لأنه شيء مستخبث مستقذر وعلى هذا يكون في الآية دلالة على نجاسة المني لقوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر : ٥] وقيل : المراد وسوسة الشيطان إليهم وتخويفه إياهم من العطش وذلك أن المشركين سبقوهم إلى الماء ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء فناموا فاحتلم أكثرهم فتمثل لهم إبليس في صورة إنسان فقال لهم : أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطشتم ، ولو كنتم على حق لما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة. فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا فأنزل الله المطر فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذ أصحاب رسول الله الحياض على عدوة الوادي وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضأوا وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدوّ حتى ثبتت عليه الأقدام وكانت هذه ثالثة الفوائد وأشار إليها بقوله (وَيُثَبِّتَ بِهِ)

٣٨١

أي بالماء (الْأَقْدامَ) وقيل : الضمير عائد إلى الربط الذي يدل عليه قوله (لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) والمراد من تثبيت الأقدام الصبر في مواطن القتال ، وذلك أن من كان قلبه ضعيفا فرّ ولم يقف فلما ربط الله على قلوبهم أي قوّاها ثبتت أقدامهم ومعنى «على» أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأن علاها وارتفع فوقها. قال الواحدي : يشبه أن يكون على صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالنصر وما أوقع فيها من اليقين. روي أن المطر نزل على الكافرين أيضا ولكن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب فعظم الوحل وصار مانعا لهم من المشي والاستقرار. فقوله (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) يدل مفهومه على أن حال الأعداء كان بخلاف ذلك. ومن جملة النعم قوله (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ) وهو بدل ثالث من (إِذْ يَعِدُكُمُ) ومنصوب بـ (يُثَبِّتَ) أو بذكر أني معكم الخطاب للملائكة والمراد أني معينكم على التثبيت فثبتوهم. وقيل : الخطاب للمؤمنين لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار. وقوله (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) في هذا التثبيت وجوه : أحدها : أنه مفسر لقوله (سَأُلْقِي فَاضْرِبُوا) ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ، ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة. وثانيها : أن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم في القتال فالإلهام من الملائكة كالوسوسة من الشياطين. وثالثها : أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يعدونهم النصر والظفر. ومعنى (فَوْقَ الْأَعْناقِ) أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل ، فكان إيقاع الضرب فيها إزالة الرأس من الجسد. وقيل : أراد ضرب إلهام لأن الرؤوس فوق الأعناق. والبنان الأصابع سميت بذلك لأن بها صلاح أحوال الإنسان التي يريد أن يقيمها من أبن بالمكان أي أقام به ، والمراد نفي الأطراف من اليدين والرجلين. ثم اختلفوا فمنهم من قال : المراد أن يضربوهم كما شاؤا لأن ما فوق العنق هو الرأس وهو أشرف الأعضاء والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء فذكر الأشرف والأخس تنبيها على كل الأعضاء. بوجه آخر الضرب إما وقع على مقتل أو غير مقتل ، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معا. ومنهم من قال : الأوّل إشارة إلى القتل ، وقطع البنان عبارة عن إفناء آلات المدافعة والمحاربة ليعجزوا عن القتال. وجوّز في الكشاف أن يكون قوله (سَأُلْقِي) إلى قوله (كُلَّ بَنانٍ) تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به أي قولوا لهم قول سألقي ، أو يكون واردا على الاستئناف كأنهم قالوا : كيف نثبتهم؟ فقيل : قولوا لهم قول سألقي. فالضاربون على هذا هم المؤمنون (ذلِكَ) العقاب العاجل من الضرب والقتل وقع عليهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا) بسبب مشاقتهم ومخالفتهم (اللهَ وَرَسُولَهُ) ثم بيّن أن الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء يسير وقدر نزر في جنب ما أعد الله لهم ولأمثالهم في

٣٨٢

الآجل فقال (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي له. والكاف في (ذلِكَ) للرسول أو لكل من له أهلية الخطاب ، في (ذلِكُمْ) للكفرة على طريقة الالتفات ومحله الرفع تقديره : ذلكم العذاب المعجل من القتل والأسر أو العذاب ذلكم ، أو النصب والتقدير : عليكم ذلكم أي الزموه فذوقوه أو هو كقولك زيدا فاضربه. قال في الكشاف : (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) عطف على (ذلِكُمْ) في وجهيه أو نصب على أن الواو بمعنى «مع» والمعنى : ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة. فوضع الظاهر موضع ضمير الخطاب. قلت : ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أي وأن للكافرين عذاب النار حق أو بالعكس أي والحكم والشأن أن للكافرين. وفي ذكر الذوق إشارة إلى أن عذاب الدنيا شيء قليل بالنسبة إلى عذاب الآخرة.

قوله سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) قال الأزهري : أصل الزحف هو أن يزحف الصبي على استه قبل أن يقوم ، شبّه بزحف الصبي مشي الطائفتين تتمشى كل فئة مشيا رويدا إلى الفئة الأخرى تتدانى للضرب. فانتصابه على الحال من الفريقين أي ، إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم ، ويجوز أن يكون حالا من الذين كفروا. والزحف الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيبا سمي بالمصدر ، والجمع زحوف والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفروا فضلا عن حالتي المداناة والمساواة ، ويجوز أن يكون حالا من المخاطبين وهم المؤمنون أي إذا ذهبتم إليهم للقتال فلا تنهزموا ومعنى (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم أو هو تقدمة نهي عن الفرار يوم حنين حين تولوا مدبرين وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا. وفي قوله (مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) أمارة عليه ، ثم بين أن الانهزام محرم إلا في حالتين فقال (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) هو المكر بعد الفرّ يخيل إلى عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو نوع من خدع الحرب (أَوْ مُتَحَيِّزاً) أي منحازا (إِلى فِئَةٍ) إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها. وعلى هذا انتصب (مُتَحَرِّفاً) و (مُتَحَيِّزاً) على أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ووجد صحته من أنه ليس في الكلام نفي ظاهر هو أنه في معنى النفي كأنه قيل : ومن لا يقدم أو لا يعطف عليهم في حال من الأحوال إلا في حال التحرف أو التحيز ، ويجوز أن يكون الاستثناء تاما على أن الموصوف محذوف والتقدير : ومن يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرفا أو متحيزا. ووزن متحيزا «متفيعل» لأنه من حاز يجوز فعل به ما فعل بأيام ، لو كان «متفعلا» لقيل «متحوزا». عن ابن عمر : خرجت سرية وأنا فيهم ففروا ، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت : يا رسول الله نحن

٣٨٣

الفرارون فقال : بل أنتم العكارون وأنا فئتكم. والعكرة البكرة. وعن ابن عباس أن الفرار من الزحف في غير هاتين الصورتين من أكبر الكبائر. واحتج القاضي بالآية على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة. وأجيب بأنه مشروط بعدم العفو. وعن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بيوم بدر لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حاضرا بنفسه ، لأنه تعالى وعدهم النصرة ، ولأنه كان أول جهاده فناسب التشديد ولهذا منع من أخذ الفداء. وأكثر المفسرين على أنه عام في جميع الحروب لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قال أكثر المفسرين : إن المؤمنين لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر وكان القائل يقول قتلت وأسرت فقيل لهم : فلم تقتلوهم. والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم وربط عليها. ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبرائيل عليه‌السلام فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال : ـ لما التقى الجمعان ـ لعلي : أعطني قبضة من حصباء الوادي فأعطاه فرمى بها في وجوههم وقال : «شاهت الوجوه» فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا فنزلت (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) أي وما رميت أنت يا محمد إذ رميت (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أثبت الرمية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن صورتها وجدت منه عليه‌السلام ونفاها عنه لأن أثرها فوق حد تأثير القوى البشرية. قال حكيم بن حزام : لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الحصباء فانهزمنا ، وعن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : أقبل أبي بن خلف يوم أحد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريده فاعترض له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخلوا سبيله فاستقبله مصعب ابن عمير أخو بني عبد الدار ورأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترقوة أبيّ من فرجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه بحربته فسقط أبي من فرسه ولم يخرج من طعنته دم وكسر ضلعا من أضلاعه ، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا له : ما أعجزك إنما هو خدش فقال : والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لما أتوا أجمعين فمات أبيّ إلى النار قبل أن يقدم مكة فأنزل الله في ذلك (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وقيل : نزلت في خيبر حين دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوس فرمى منها بسهم فأقبل السهم يهوي حتى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه. وأصح الأقوال هو الأوّل كيلا يدخل في أثناء القصة كلام أجنبي ، نعم لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع لأن العبرة بعموم اللفظ لا

٣٨٤

بخصوص السبب. (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) وليعطهم عطاء جميلا فعل ما فعل وما فعله إلا لذلك. قال القاضي : ولو لا أن المفسرين أجمعوا على أن معنى البلاء هاهنا النعمة وإلا لكان يحتمل المحنة أي الذي فعله تعالى يوم بدر كان كالسبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لكلامكم (عَلِيمٌ) بضمائركم. وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب كيلا يغتر العبد بظواهر الأمور (ذلِكُمْ) الغرض أي الغرض ذلكم (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) إعرابه كما مر في قوله (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) [الأنفال : ١٤] قال ابن عباس : ينبىء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقول إني قد أوهنت كيد عدوّك حتى قتلت جبابرتهم وأسرت أشرافهم. قال السدي والكلبي والحسن : كان المشركين حين خرجوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين فأنزل الله تعالى خطابا لهم على سبيل التهكم (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) وقال عكرمة : قال المشركون : اللهم لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فنزلت. وروي أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم أي فأهلكه. وقيل : إنه خطاب للمؤمنين الذين استغاثوا الله وطلبوا النصر. ثم خاطب الكفار بقوله (وَإِنْ تَنْتَهُوا) أي عن عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وأسلم وإن تعودوا لمحاربته نعد لنصرته عليكم. وجوّز بعضهم أن يكون الخطاب في الجميع للمؤمنين أي إن تكفوا عن المنازعة في أمر القتال أو عن طلب الفداء فهو خير لكم (وَإِنْ تَعُودُوا) إلى تلك المنازعات (نَعُدْ) إلى ترك نصرتكم. ثم ختم الآية بقوله (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) تقديره على قراءة الفتح ولأن الله معين المؤمنين كان ذلك.

التأويل : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً) فيه تغليب الحال إلى ضده بأمر التكوين كما قال للنار (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩] كذلك قال للخوف كن أمنا على محمد وأصحابه فكان (يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ) من سماء الروحانية ماء الإلهام الرباني (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من دنس الصفات النفسانية والحيوانية (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ) وساوس الشيطان وهواجسه (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) بالصدق والإخلاص والمحبة والتوكل واليقين (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) على طريق الطلب (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا) فيه أن التثبيت من الله لا من غيره ، وكذلك إلقاء الرعب في قلوبهم وغير ذلك. (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إذا لقيتم كفار النفوس وصفاتها مجتمعين على قهر القلوب وصفاتها فلا تنهزموا فتقعوا عن صراط الطلب (إِلَّا مُتَحَرِّفاً) إلا قلبا يتحرف ليتهيأ لأسباب القتال مع النفس أو راجعا إلى الاستمداد من

٣٨٥

الروح وصفاتها أو إلى ولاية الشيخ أو إلى حضرة الله تعالى مستمدا في قمع النفس وقهرها بطريق المجاهدة فإنها تورث المشاهدة (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) نفى القتل عن الصحابة بالكلية أو حاله إلى نفسه فقال (وَلكِنَ) ولم ينف الرمي عن النبي بالكلية حيث قال (إِذْ رَمَيْتَ) لأن الله تعالى كان قد تجلى بالقدرة وكأن يده يد الله كما كان حال عيسى حين تجلى له بصفة الإحياء كان يحيي الموتى (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ) فيجتهدوا في متابعته إلى أن يبلغوا هذا المقام (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفتاح الصدق والإخلاص وترك ما سوى الله في طلب التجلي (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) بالتجلي فأنه تعالى متجل في ذاته أزلا وأبدا فلا تغير له وإنما التغير في أحوال الخلق ، فهم عند انغلاق أبواب قلوبهم محرومون وعند انفتاح أبوابها محظوظون (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن طلب غير الله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا) إلى طلب الدنيا وزخارفها (نَعُدْ) إلى خذلانكم ونكالكم ونكلكم إلى أنفسكم ودواعيها (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ) لا يقوم شيء من الدنيا والآخرة وما فيهما مقام شيء مما أعدّ لأهل الله وخاصته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠))

القراآت : (وَلا تَوَلَّوْا) بالإدغام : البزي وابن فليح.

الوقوف : (تَسْمَعُونَ) ه ج للآية وللعطف لا يسمعون ه (لا يَعْقِلُونَ) ه (لَأَسْمَعَهُمْ) ط (مُعْرِضُونَ) ه (لِما يُحْيِيكُمْ) ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الظرف (تُحْشَرُونَ) ه (خَاصَّةً) ج لما مر (الْعِقابِ) ه (تَشْكُرُونَ) ه (تَعْلَمُونَ) ه (فِتْنَةٌ)

٣٨٦

لا للعطف (عَظِيمٌ) ه (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ط (الْعَظِيمِ) ه (أَوْ يُخْرِجُوكَ) ط (وَيَمْكُرُ اللهُ) ط (الْماكِرِينَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه بعد ذكر نحو من قصة بدر والغنائم. أدّب المؤمنين أحسن تأديب فأمرهم بطاعته وطاعة رسوله في قسمة الغنائم وغيرها ثم قال (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) فوحد الضمير لأن التولي إنما يصح في حق الرسول بأن يعرضوا عنه وعن قبول قوله وعن معونته في الجهاد ، أو لأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقوله (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] وكقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان وجوّز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة أي لا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) لم يبين أنهم ماذا يسمعون إلا أنه يعلم من مساق الكلام في السورة أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد أو المراد وأنتم تسمعون الأمر المذكور ، أو وأنتم تصدقون بدليل قوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لأنهم ليسوا بمصدقين فلا يصح دعوى السماع منهم. وتحقيق ذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يقبل التكليف ويلتزمه إلا بعد أن يسمعه ، فجعل السماع كناية عن القبول ، ثم أكد التكاليف المذكورة بقوله (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) أي إن شر من يدب على الأرض ، أو إن شر البهائم. والفرق بين التفسيرين أن الأوّل حقيقة إلا أنه ذكر في معرض الذم كقولك لمن لا يفهم الكلام هو شبح وجسد. والثاني مذكور في معرض التشبيه بالبهائم بل جعلهم شرّها لجهلهم وعدولهم عن الانتفاع بالحواس كقوله (بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] ومعنى (عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه وقضائه. ثم قال (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ) أي في هؤلاء الصم البكم (خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) عن ابن جريج : هم المنافقون. وعن الحسن : أهل الكتاب ، وقيل : بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون : نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء. وروي أنهم سألوا النبي أن يحيي لهم قصي ابن كلاب وعيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوّته ، فبيّن تعالى أنه لو علم فيهم خيرا وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون هذا الكلام إلا على سبيل العناد والتعنت. وأنهم لو أسمعهم الله كلامهم لتولوا عن قبول الحق ولأعرضوا عنه على عادتهم المستمرة. واعلم أن معلومات الله تعالى على أربعة أقسام : جملة الموجودات ، وجملة المعدومات ، وإن كل واحد من الموجودات لو كان معدوما فكيف يكون حاله ، وإن كل واحد من المعدومات لو كان موجودا فكيف يكون حاله ،

٣٨٧

والأولان علم بالواقع ، والآخران الباقيان علم بالمقدر ومن هذا القبيل. قوله تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) وتقدير الكلام لو حصل فيهم خيرا لأسمعهم الله الحجج والمواعظ فعبر عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده ، وأورد على الآية أنها على صورة قياس شرطي فإذا حذفنا الحد الأوسط بقيت النتيجة : لو علم الله فيهم خيرا لتولوا ولكن كلمة «لو» وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيكون التولي منتفيا لأجل انتفاء علم الله الخير فيهم بل لأجل انتفاء الخير فيهم. لكن انتفاء التولي خير من الخيرات فأوّل الكلام يقتضي نفي الخير عنهم وآخره يقتضي. حصول الخير فيهم وهذا تناقض والجواب المنع من أن الحد الأوسط مكرر لأن المراد بالإسماع الأوّل إسماع التفهم وإلزام القبول ، والمراد بالإسماع الثاني صورة الإسماع فحسب ، وأيضا كلمة «لو» في المقدمة الثانية هي التي تجيء للمبالغة بمعنى «أن» كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» فإذا لا تعلق لإحدى الجملتين بالأخرى فلا قياس. واستدلت الأشاعرة بالآية على أن صدور الإيمان عن الكافر محال لأن الصادق قد أخبر أنهم على تقدير الإسماع معرضون وخلاف علمه وخبره محال. وقال في الكشاف : لو علم الله فيهم خيرا أي انتفاعا باللطف للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه ، أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا وتزييف هذا التفسير سهل. ثم علم المؤمنين أدبا آخر فقال (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) فوحد الضمير كما مر. والمراد بالاستجابة الطاعة والامتثال ، وبالدعوة البعث والتحريض. عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ على باب أبيّ بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي؟ قال : كنت أصلي. قال : ألم تخبر فيما أوحي إليّ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)؟ قال : لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك ، وقد يتمسك الفقهاء بهذا الخبر على أن ظاهر الأمر للوجوب وإلا فلم يتوجه اللوم. ثم قيل : إن هذا مما اختص به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : إن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته. ثم الإحياء لا يمكن أن يحمل على نفس الحياة لأن إحياء الحي محال فذكروا فيه وجوها : قال السدي : هو الإسلام والإيمان لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته بدليل قوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [الأنعام : ٩٥] أي المؤمن من الكافر. وقال قتادة : يعني القرآن لأن فيه العلم الذي به الحياة الحقيقية. والأكثرون على أنه الجهاد لأن وهن أحد العدوّين سبب حياة الآخر ، ولأن الجهاد سبب حصول الشهادة التي توجب الحياة الدائمة لقوله (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [آل عمران : ١٦٩] ، وقيل : إنه عام في كل حق وصواب فيدخل فيه القرآن

٣٨٨

والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة. والمراد لما يحييكم الحياة الطيبة كما قال (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [آل عمران : ١٦٩] ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) اختلف الناس فيه بحسب اختلافهم في مسألة الجبر والقدر فنقل الواحدي عن ابن عباس والضحاك : يحول بين الكافر وطاعته ويحول بين المطيع ومعصيته. فالسعيد من أسعده الله والشقي من أضله الله ، والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ويخلق فيها القصود والدواعي والعقائد حسبما يريد ، وتقرير ذلك من حيث العقل وجوب انتهاء جميع الأسباب إليه. ثم ختم الآية بقوله (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ليعلم أنهم مع كونهم مجبورين خلقوا مثابين ومعاقبين إما للجنة وإما للنار لا يتركون مهملين معطلين. وقالت المعتزلة : إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز وأمر العاجز سفه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وإنه تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول فلو لم تكن الإجابة ممكنة فكيف يأمر بها ، ولو كان الأمر بغير المقدور جائزا لكان القرآن حجة للكفار على الرسول لا له عليهم. فإذا لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر. فتأويلها أن الله يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت يدل عليه قوله (وَأَنَّهُ) أي وأن الشأن أو الله إليه تحشرون والمقصود الحث على الطاعة قبل نزول سلطان الموت ، أو أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه بقلبه تسمية للشيء باسم محله فكأنه قيل : بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على طول البقاء فإن الأجل يحول دون الأمل أو المراد سارعوا إلى الطاعة ولا تمتنعوا عنها بسببب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن فإن الله مقلب القلوب من حالة العجز والجبن إلى القوة والشجاعة وقد يبدل بالأمن خوفا وبالخوف أمنا ، وبالذكر نسيانا وبالنسيان ذكرا ، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى ، فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا. وقال مجاهد : المراد بالقلب العقل والمعنى بادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون. ولا تأمنوا زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف فلا يقدر على الكفر والإيمان. وعن الحسن : إن الغرض التنبيه على أنه تعالى مطلع على بواطن العبد وضمائره ، وإن قربه من عبده أشد من قرب قلبه منه كقوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] ثم حذرهم الفتن والاختلاف فقال (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) قيل : هو العذاب. وقيل : افتراق الكلمة. وقيل : إقرار المنكر بين أظهرهم. وقوله (لا تُصِيبَنَ) إما أن يكون جوابا للأمر وجاز دخول النون المؤكدة فيه مع خلوه من الطلب لأن فيه معنى النهي كقولك : انزل عن الدابة لا تطرحك وإن شئت قلت لا تطرحنك. وعلى هذا «من» في (مِنْكُمْ) للتبعيض. وقيل : الجواب محذوف والمعنى إن أصابتكم لا تصيب بعضكم وهم الظالمون حال كونهم (خَاصَّةً)

٣٨٩

ولكنها تعم الظالمين وغيرهم لأنه يحسن من الله تعالى ذلك بحكم المالكية أو لاشتمال ذلك على نوع من الصلاح ، وإما أن يكون نهيا بعد أمر و «من» للبيان كأنه قيل : احذروا ذنبا أو عقابا. ثم قيل لا تصيبنكم تلك العقوبة خاصة على ظلمكم كأن الفتنة نهيت عن ذلك الاختصاص على طريق الاستعارة. وهكذا إن جعلت الجملة الناهية صفة للفتنة على إرادة القول أي اتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبن كقوله :

جاؤا بمذق هل رأيت الذئب قط

عن الحسن : نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة على ما قال الزبير : نزلت فينا وقرأناها زمانا وما رأينا أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها. وعن السدي : نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل. وروي أن الزبير كان يسامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما إذ أقبل علي فضحك إليه الزبير فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف حبك لعلي؟ فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني أحبه كحبي لولدي أو أشد حبا. قال : فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟ ثم ختم الآية بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) والمراد منه الحث على لزوم الاستقامة. ثم ذكرهم نعمه عليهم فقال (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ) وانتصابه على أنه مفعول به أي وقت أنكم (قَلِيلٌ) يستوي فيه الواحد والجمع (مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) أرض مكة قبل الهجرة (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) يستلبونكم لكونهم أعداء لكم (فَآواكُمْ) إلى المدينة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) بمظاهرة الأنصار وبإمدادكم بالملائكة يوم بدر (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من الغنائم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ينقلكم من الشدة إلى الرخاء ، ومن البلاء إلى النعماء والآلاء حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة في الأنفال؟ ، ثم منعهم من الخيانة في الأمانة. يروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام ، فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة بن مروان بن المنذر وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله في أيديهم. فبعثه إليهم فقالوا له : ما ترى هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه إنه أي إن حكم سعد بن معاذ هو الذبح. قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت الآية. فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ. فمكث سبعة أيام حتى خرّ مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له : قد تيب عليك في نفسك. فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يحلني. فجاءه فحله بيده فقال : إن من تمام توبتي أن

٣٩٠

أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يجزيك الثلث أن تتصدق به. وقال السدي : كانوا يسمعون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا فيفشونه ويلقونه إلى المشركين فنهاهم الله عن ذلك. وقال ابن زيد : نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون يظهرون الإيمان ويسرون الكفر. وعن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خروجه وعزم على الذهاب إليه فكتب إليه رجل من المنافقين إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فنزلت. وقال الزهري والكلبي : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة بخروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها حكاه الأصم. قال القاضي : والأقرب أنها في الغنائم. فالخيانة فيها خيانة الله لأنها عطيته ، وخيانة لرسوله لأنه القيم بقسمتها ، وخيانة للمؤمنين الغانمين فلكل منهم فيها حق. قال : ويحتمل أن يراد بالأمانة كل ما تعبد به كأن معنى الآية إيجاب أداء التكاليف بأسرها في الغنيمة وغيرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال ، ومعنى الخون النقص كما أن معنى الوفاء التمام فإذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت النقصان فيه ، وقد استعير فقيل : خان الدلو الكرب ، وخان الشتار السبب. والكرب حبل قصير يوصل بالرشاء ويكون على العراقيّ سمي كربا لأنه يكرب من الدلو أي يقرب منه. واشتار العسل إذا اجتناه وجمعه. وتخونوا يحتمل أن يكون جزما داخلا في حكم النهي وأن يكون نصبا بإضمار أن كقوله (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) [البقرة : ٤٢] ومعنى الآية على الوجه العام لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه ورسوله بأن لا تستنوا به وأماناتكم فيما بينكم بأن لا تحفظوها وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله ، أو تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عمدا لا سهوا. وقيل : وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن. ثم لما كان الداعي إلى الخيانة هو محبة الأموال والأولاد ولعل ما فرط من أبي لبابة كان بسبب ذلك نبه الله سبحانه على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب فقال (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي أنها سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب أو هي محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون على حدوده في ذلك الباب (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فعليكم أن تزهدوا في الدنيا وما يتعلق بها وتنوطوا هممكم بما يفضي إلى السعادات الروحانية الباقية. ويمكن أن يتمسك بالآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل لكونه مفضيا إلى الأجر العظيم عند الله هو أفضل من الاشتغال بالنكاح لأدائه إلى الفتنة. ثم رغب في التقوى التي توجب الإعراض عن محبة الأموال والأولاد وعن التهالك في شأنهم فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) في ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر و (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) فارقا بينكم وبين الكفار في الأحوال الباطنة

٣٩١

بالاختصاص بالمعرفة والهداية وانشراح الصدر وإزالة الغل والحسد والمكر وسائر الأخلاق الذميمة والأوصاف السبعية والبهيمية ، وفي الأحوال الظاهرة بإعلاء الكلمة والإظهار على أهل الأديان كلهم ، وفي أحوال الآخرة بالثواب الجزيل والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة. (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) يستر عليكم في الدنيا صغائركم إن فرطت منكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) في دار الجزاء (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فإذا وعد بشيء وفى به أحسن الإيفاء. ومن عظيم فضله أنه يتفضل بذاته من غير واسطة وبدون التماس عوض وكل متفضل سواه فإنه لا يتفضل إلا بعد أن يخلق الله فيه داعية التفضل وبعد أن يمكن المتفضل عليه من الانتفاع بذلك. وبعد أن يكون قد تصوّر فيه ثوابا أو ثناء ، أو حمله على ذلك رقة طبع أو عصبية وإلا فلا فضل في الحقيقة إلا لله سبحانه فلهذا وصفه بالعظم. ثم لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقولهم (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) ذكر رسوله نعمته عليه وذلك دفع كيد المشركين عنه حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم وفيما أتاح له من حسن العاقبة. والمعنى واذكر وقت مكرهم. فإن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين : ذكروا أن قريشا اجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا شيخ من نجد ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا. فقالوا : هذا من نجد لا بأس عليكم به. فقال أبو البختري من بني عبد الدار : رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوّة وتلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون ، فقال إبليس : بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع واسترحتم. فقال : بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا صارما فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال الشيخ : صدق هذا الفتى هو أجودكم رأيا. فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله ، فأخبر جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة فأمر عليا عليه‌السلام فنام في مضجعه وقال له : اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه. وباتوا مترصدين فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا عليا فبهتوا وخيب الله سعيهم واقتصوا أثره فأبطل مكرهم. ومعنى (لِيُثْبِتُوكَ) قال ابن عباس : ليوثقوك ويسجنوك لأنه لا يقدر على الحركة وهو إشارة إلى رأي أبي البختري. وقوله (أَوْ

٣٩٢

يَقْتُلُوكَ) إشارة إلى رأي أبي جهل. وقوله (أَوْ يُخْرِجُوكَ) أي من مكة إشارة إلى رأي هشام. وأنكر القاضي حديث إبليس في القصة وتصويره نفسه بصورة الإنس. قال : لأن ذلك التغيير إن كان بفعل الله فهو إعانة للكفار على المكر ، وإن كان من فعل إبليس فلذلك لا يليق بحكمة الله تعالى لأن إقدار إبليس على تغيير صورة نفسه إعانة له على الإغواء والتلبيس. هذا ما حكى عن القاضي وذهب عليه أن هذا الاعتراض وارد على خلق إبليس نفسه وعلى خلق سائر أسباب الشرور والآثام وقد أجبنا عن أمثال ذلك مرارا ، وقد عرفت تفسير المكر في سورة آل عمران. والحاصل أنهم احتالوا في إبطال أمر محمد والله نصره وقواه فضاع فعلهم وظهر صنع الله. فإن قيل : لا خير في مكرهم فكيف قال والله أنه خير الماكرين؟ وأجيب بأن المراد أقوى الماكرين ، أو المراد أنه لو قدر في مكرهم خير لكان الخير في مكره أكثر ، أو المراد أنه في نفسه خير.

التأويل : إن شر من دب في الوجود هم (الصُّمُ) عن استماع كلام الحق. يسمع القلب والقبول (الْبُكْمُ) عن كلام الحق والكلام مع الحق. والأصم لا بد أن يكون أبكم فلذلك خصا بالذكر (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أنهم لما ذا خلقوا فلا جرم يؤل حالهم من أن يكونوا خير البرية إلى أن يكونوا شرّ الدواب (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ) إنه تعالى يطلب بالمحجة من العبد الإجابة كما يطلب العبد للحاجة منه الإجابة ، فالاستجابة لله إجابة الأرواح للشهود وإجابة القلوب للشواهد ، وإجابة الأسرار للمشاهدة ، وإجابة الخفي للفناء في الله ، والاستجابة للرسول بالمتابعة لما يحييكم يفنيكم عنكم ويبقيكم به (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ) بسطوات أنوار جماله وجلاله بين مرآة قلبه وظلمة أوصاف قالبه (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) بالفناء عنكم والبقاء به (وَاتَّقُوا) أيها الواصلون فتنة ابتلاء النفوس بحظوظها الدنيوية والأخروية. لا تصيب النفوس الظالمة فقط بل تصيب ظلمتها الأرواح النورانية والقلوب الربانية فتجتذبها من حظائر القدس ورياض الأنس إلى حضائض صفات الإنس (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) يعاقب الواصلين بالانقطاع والاستدراج عند الالتفات إلى ما سواه (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ) أيها الأرواح والقلوب (قَلِيلٌ) لم ينشأ بعد لكما الصفات الأخلاق الروحانية (مُسْتَضْعَفُونَ) من غلبات صفات النفس لإعواز التربية بألبان آداب الطريقة ولانعدام جريان أحكام الشريعة عليكم إلى أوان البلوغ. يخافون أن تسلبكم النفوس وصفاتها والشيطان وأعوانه (فَآواكُمْ) إلى حظائر القدس (وَأَيَّدَكُمْ) بالواردات الربانية (وَرَزَقَكُمْ) المواهب الطاهرة من لوث الحدوث. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني الأرواح والقلوب المنوّرة بنور الإيمان المستسعدة بسعادات العرفان (لا تَخُونُوا اللهَ) فيما آتاكم من المواهب

٣٩٣

فتجعلوها شبكة لاصطياد الدنيا ولا تخونوا الرسول بترك السنة والقيام بالبدعة (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) التي هي محبة الله ، وخيانتها تبديلها بمحبة المخلوقات (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إنكم تبيعون الدين بالدنيا والمولى بالأولى (فِتْنَةٌ) يختبركم الله بها بالتمييز الموافق من المنافق ، والصديق من الزنديق. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بهذه المقامات والكرامات (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) من غير الله (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) يفض عليكم من سجال جماله وجلاله القديم ما تفرقون به بين الحدوث والقدم (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ) سيئات وجودكم الفاني (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) يستركم بأنوار جماله وجلاله (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) وهو البقاء بالله بعد الفناء فيه (لِيُثْبِتُوكَ) أيها الروح في أسفل سافلين الطبيعة أو يعدموك بانعدام آثارك (أَوْ يُخْرِجُوكَ) من عالم الأرواح (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) يصلح حال أهل الصلاح البتة.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

القراآت : بما تعملون ، (بَصِيرٌ) بتاء الخطاب : يعقوب.

الوقوف : (مِثْلَ هذا) لا لأن الابتداء بأن هذا إلا أساطير الأولين قبيح (الْأَوَّلِينَ) ه (أَلِيمٍ) ه (وَأَنْتَ فِيهِمْ) ط (يَسْتَغْفِرُونَ) ه (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) ط (لا يَعْلَمُونَ) ه (وَتَصْدِيَةً) ط (تَكْفُرُونَ) ه (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ط (يُغْلَبُونَ) ط لأن ما بعده مبتدأ (يُحْشَرُونَ) ه لا لتعا اللام (فِي جَهَنَّمَ) ط (الْخاسِرُونَ) ه (ما قَدْ سَلَفَ) ط لابتداء الشرط

٣٩٤

مع العطف (الْأَوَّلِينَ) ه (كُلُّهُ لِلَّهِ) ط (بَصِيرٌ) ه (مَوْلاكُمْ) ط (النَّصِيرُ) ه.

التفسير : لما حكى مكرهم في ذات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حكى مكرهم في دينه. وروي أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجرا واشترى أحاديث كليلة ودمنة وقصة رستم وإسفنديار ، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين فيقرأ عليهم ويقول هذا مثل ما يذكره محمد من قصص الأوّلين ، ولو شئت لقلت مثل قوله ، وهذا منه ومن أمثاله صلف تحت الراعدة لأنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة. ويروى عن النضر أو عن أبي جهل على ما في الصحيحين أن أحدهما قال ما معناه (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَ) الآية. وهذا أسلوب من العناد بليغ لأن قوله (هُوَ الْحَقَ) بالفصل وتعريف الخبر تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق. ومعنى (حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الحجارة المسوّمة للعذاب أي إن كان القرآن هو المخصوص بالحقية فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل أو بنوع آخر من جنس العذاب الأليم. ومراده نفي كونه حقا فلذلك علق بحقيته العذاب كما لو علق بأمر محال فهو كقول القائل إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة. وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة. قال : أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعاهم إلى الحق (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له. ثم شرع في الجواب عن شبهتهم فقال (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) اللام لتأكيد النفي دلالة على أن تعذيبهم بعذاب الاستئصال والنبي بين أظهرهم غير مستقيم عادة تعظيما لشأن النبي (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال قتادة والسدي : المراد نفي الاستغفار عنهم أي لو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم. وقيل : اللفظ عام لأن المراد بعضهم وهم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المستضعفين المؤمنين فهو كقولك : قتل أهل المحلة فلانا وإنما قتله واحد منهم أو اثنان. وقيل : وصفوا بصفة أولادهم والمعنى وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه ، وفي علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان كحكيم بن حزام والحرث بن هشام وعدد كثير ممن آمن يوم الفتح وقبله وبعده. وفي الآية دلالة على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. قال ابن عباس : كان فيهم أمانان : نبي الله والاستغفار. أما النبي فقد مضى وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة. ثم بين أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم فقال (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم يعني لا حظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. قيل : لحقهم هذا العذاب

٣٩٥

المتوعد به يوم بدر. وقيل : يوم فتح مكة بدليل قوله (وَهُمْ يَصُدُّونَ) أي كيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله عام الحديبية. والأوّلون قالوا : إن إخراجهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من الصدّ. وعن ابن عباس أن هذا العذاب عذاب الآخرة والذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء فنفى الله استحقاقهم الولاية بقوله (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) من المسلمين وليس كل مسلم يصلح لذلك فضلا عن مشرك (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) كان فيهم من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة ، أو أراد بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم. ثم ذكر بعض أسباب سلب الولاية عنهم فقال (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) المكاء «فعال» كالثغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر. والتصدية التصفيق «تفعلة» من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل فيكون في الأصل معتل اللام ، أو من صدّ يصدّ مضاعفا أي صاح فقلبت الدال الأخيرة ياء كالتقضي في التقضض ، وأنكر هذا الاشتقاق بعضهم وصوّبه الأزهري وأبو عبيدة. قال جعفر بن ربيعة : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء والتصدية فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرا. وقيل : هو أن يجعل بعض أصابع اليمين وبعض أصابع الشمال في الفم ثم يصفر به. وقيل : تصويت يشبه صوت المكّاء بالتشديد وهو طائر معروف. عن ابن عمر : كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون. فالمكاء والتصدية على هذا نوع عبادة لهم فلهذا وضعا موضع الصلاة بناء على معتقدهم. وفيه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له كقول العرب : ما لفلان عيب إلا السخاء أي من كان السخاء عيبه فلا عيب له. وقال مجاهد ومقاتل : كانوا يعارضون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الطواف والصلاة عند المسجد الحرام يستهزؤن به ويخلطون عليه فجعل المكاء والتصدية صلاة لهم كقولك : زرت الأمير فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة. ثم خاطبهم على سبيل المجازاة بقوله (فَذُوقُوا الْعَذابَ) عذاب القتل والأسر يوم بدر أو عذاب الآخرة (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة.

ولما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) الآية. قال مقاتل والكلبي : نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا : أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا حجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حزام وأبيّ بن خلف وزمعة بن أسود والحرث بن عامر بن نوفل والعباس ابن عبد المطلب. وكلهم من

٣٩٦

قريش وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر. وقال سعيد بن جبير وابن أبزى : نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش ـ والأحبوش جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة ـ وأنفق عليهم أربعين أوقية من فضة. والأوقية اثنان وأربعون مثقالا ـ قاله في الكشاف. وقال محمد بن إسحق عن رجاله : لما أصيب قريش يوم بدر فرجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان ابن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا لمن أصيب منا فأنزل الله تعالى الآية. ومعنى (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أن غرضهم فى الإنفاق كان هو الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك. ثم أخبر عن الغيب على وجه الإعجاز فقال (فَسَيُنْفِقُونَها) أي سيقع منهم هذا الإنفاق ثم تكون عاقبة إنفاقها ندما وحسرة فكأن ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة ثم يغلبون آخر الأمر وإن كانت الخرب بينهم وبين المؤمنين سجالا لقوله (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] ومعنى «ثمك» في الجملتين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد ، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة. ثم قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي الكافرون منهم ولم يقل «ثم يغلبون وإلى جهنم يحشرون» لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه فذكر أن الذي بقوا على الكفر لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم دون من أسلم منهم. ثم بين الغاية والغرض فيما يفعل بهم من الغلبة ثم الحشر إلى جهنم فقال (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ) أي الفريق الخبيث من الكفار (مِنَ) الفريق (الطَّيِّبِ) وهم المؤمنون (وَيَجْعَلَ) الفريق (الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) عبارة عن الجمع والضم وفرط الازدحام. يقال : ركم الشيء يركمه إذا جمعه وألقى بعضه على بعض (أُولئِكَ) الفريق الخبيث (هُمُ الْخاسِرُونَ) وقيل : الخبيث والطيب صفة المال أي ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من المال الطيب الذي أنفقه المهاجرون والأنصار في نصرته فيركمه فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها على بعض فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها كقوله (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ) [التوبة : ٣٥] وعلى هذا فاللام في قوله (لِيَمِيزَ اللهُ) يتعلق بقوله (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) قاله في الكشاف. ولا يبعد عندي أن يتعلق بـ (يُحْشَرُونَ) و (أُولئِكَ) إشارة إلى الذين كفروا. ولما بين ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى

٣٩٧

الطريق المستقيم وما يتبعه من الصلاح فقال (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عما هم عليه من عداوة الرسول وقتاله بالدخول في السلم والإسلام (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) من الكفر والمعاصي. ولو كان المراد خطابهم بهذا القول لقيل : «أن تنتهوا يغفر لكم». وقد قرأ بذلك ابن مسعود (وَإِنْ تَعُودُوا) لقتاله (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر أو سنة الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم فأهلكوا أو غلبوا كقوله (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] واستدل كثير من العلماء منهم أصحاب أبي حنيفة الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام لأن الخطاب مع الكفر باطل بالإجماع وبعد زواله لا يؤمر بقضاء العبادات الفائتة ، بل ذهب أبو حنيفة إلى أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردة وقبلها وفسر (وَإِنْ يَعُودُوا) بالعودة إلى الردة. واختلفوا في أن الزنديق هل تقبل توبته أم لا؟ والصحيح أنها مقبولة لشمول الآية جميع الكفار لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن نحكم بالظاهر» ولأنه يكلف بالرجوع ولا طريق له إلا التوبة ، فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق. ثم أمر بقتالهم إن أصروا على الكفر فقال (وَقاتِلُوهُمْ) الآية. وقد مر تفسيره في سورة البقرة إلا أنه زاد هاهنا لفظة (كُلُّهُ) في قوله (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) لأن القتال هاهنا مع جميع الكفار وهناك كان مع أهل مكة فحسب (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر وأسلموا (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يثيبهم على توبتهم وإسلامهم. ومن قرأ بتاء الخطاب أراد فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه بصير يجازيكم عليه أحسن الجزاء. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) ولم ينتهوا (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) ناصركم ومتولي أموركم يحفظكم ويدفع شر الكفار عنكم فإنه (نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) فثقوا بولايته ونصرته.

التأويل : قالوا قد سمعنا وما سمعوا في الحقيقة وإلا لم يقولوا لو نشاء لقلنا فإن كلام المخلوق لن يكون مثل كلام الله. ثم انظر كيف استخرج الله منهم عقيب دعواهم (لَقُلْنا مِثْلَ هذا) قولهم (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ) ليعلم أن من هذا حاله كيف يكون مثل القرآن مقاله ، ولو كان لهم عقل لقالوا إن كان هذا حقا فاهدنا له ومتعنا به وبأنواره وأسراره (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) لأنه رحمة للعالمين والرحمة تنافي العذاب (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) يعني أكثر المتقين أو (لا يَعْلَمُونَ) أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) كذلك دأب كفار النفوس ينفقون أموال الاستعداد الفطري في غير طلب الله وإنما تصرفها في استيفاء اللذات والشهوات فستندم حين لا ينفع الندم (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) لا يظفرون

٣٩٨

بمشتهيات النفس كلها ولأجلها ، والذين كفروا من الأرواح والقلوب التابعة والنفوس (إِلى جَهَنَّمَ) البعد والقطيعة (يُحْشَرُونَ) ، (لِيَمِيزَ اللهُ) الأرواح والقلوب الخبيثة من الطيبة التي لا تركن إلى الدنيا ولا تنخدع بانخداع النفوس. (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) فيجعل الأرواح الخبيثة فوق النفوس الخبيثة فيلقي الجميع في جهنم القطعية (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من الأرواح والقلوب أي ستروا النور الروحاني بظلمات صفات النفس (إِنْ يَنْتَهُوا) عن اتباع الهوى (يُغْفَرْ لَهُمْ) يستر لهم تلك الظلمات بنور الفرقان والرشاد. (وَقاتِلُوهُمْ) كفار النفوس (حَتَّى لا تَكُونَ) آفة مانعة عن الوصول (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ببذل الوجود وفقد الموجود لنيل الوجود وكرامة الشهود والله تعالى أعلم.

تم الجزء التاسع ويليه الجزء العاشر وأوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) ..

٣٩٩

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء العاشر من أجزاء القرآن الكريم

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩))

القراآت : (بِالْعُدْوَةِ) بكسر العين في الحرفين : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الباقون : بالضم. من حيي بياءين : أبو جعفر ونافع وخلف وسهل ويعقوب والبزي ونصير وأبو بكر وحماد. الباقون : بالإدغام. (وَلا تَنازَعُوا) بالإدغام : البزي وابن فليح

٤٠٠